القصيدة الميمية (الرحلة إلى بلاد الأشواق) قال العلامة الحافظ شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبو بكر ابن القيم الجوزية تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه وأسكنه فسيح جناته:
محتويات:
1 القصيدة الميمية لابن قيم الجوزية
1.2مشهد الحجيج
1.3 آلام الوداع
1.4 انتفاضة البعث
1.5 أمنيات
1.6 سبيل النجاة
1.7 بلاد الأشواق
1.8 نهاية المطاف
2 القصيدة الميمية لابن القيم - قراءة صوتية - أداء عبد العزيز العويد
القصيدة الميمية لابن قيم الجوزية
إذا طَلَعَتْ شمسُ النهارِ فإنَّها **** أمَارَة تسْلِيمي عليكمْ فسَلمُوا
سلامٌ مِن الرحمَنِ في كلِّ سَاعة **** ورَوْحٌ ورَيْحانٌ وفضْلٌ وأنْعُمُ
عَلى الصَّحْبِ والإخْوانِ والوِلْدِ والأُلىَ **** دَعَوْهم بإحْسَانٍ فجَادُوا وأنْعَمُوا
وسائرِ مَن للسُّنَّةِ المَحْضةِ اقتَفى **** ومَا زاغ عنها فهو حَقٌّ مُقدَّمُ
أولئكَ أتباعُ النبيِّ وحِزْبُهُ **** ولوْلاهُمُ ما كان في الأرضِ مُسْلِمُ
ولوْلاهُمُ كادَتْ تَمِيدُ بأهْلِهَا **** ولكنْ رَوَاسِيها وأوْتادُها هُمُ
ولوْلاهُمُ كانتْ ظلامًا بِأهْلِها **** وَلكنْ هُمُ فِيها بُدُورٌ وَأنْجُمُ
أولئكَ أصْحَابي فحَيَّ هَلًا بهِمْ **** وحَيَّ هَلًا بالطيِّبينَ وأنعِمْ
لِكُلِّ امْرِئ ٍمنهم سَلامٌ يَخُصُّهُ **** يُبَلغُه الأدنَى إليهِ وَينعَمُ
فيَا مُحْسِنًا بَلغْ سَلامِي وَقُلْ لهُمْ **** مُحِبُّكُمُو يَدْعُو لكُم وَيُسَلمُ
ويَا لائِمِي فِي حُبِّهُمْ وَوَلائِهمْ **** تأمَّلْ هَدَاكَ اللهُ مَنْ هُوَ ألْوَمُ
بأيِّ دَلِيلٍ أمْ بأيَّةِ حُجةٍ **** ترَى حُبَّهُمْ عَارًا عَليَّ وَتنقِمُ
ومَا العارُ إلا بُغْضُهُمْ وَاجْتِنابُهُمْ **** وَحُبُّ عِدَاهُم ذاكَ عارٌ ومَأثمُ
أمَا وَالذِي شقَّ القلوبَ وأوْدَعَ الْـ **** ـمَحَبَّة فيها حيثُ لا تَتصَرَّمُ
وحَمَّلها قلبَ المُحِبِّ وإنَّهُ **** ليَضْعُفُ عنْ حَمْلِ القميصِ وَيَألمُ
وَذللها حتى اسْتكانَتْ لِصَوْلةِ الـْ **** ـمَحَبَّةِ لا تلوي ولا تتلعْثمُ
وذَلَّلَ فيها أنفُسًا دُونَ ذلِّها **** حِياضُ المَنايا فوقها وَهْيَ حُوَّمُ
لأنْتُمْ عَلى قرْبِ الدِّيارِ وبُعْدِها **** أحِبَّتُنا إنْ غِبْتُمُ أو حَضَرْتُمُ
سَلُوا نَسَمَاتٍ الرِّيحِ كم قدْ تحمَّلتْ **** مَحَبَّة صَبٍّ شوْقهُ ليْس يُكْتَمُ
وشاهِدُ هذا أنَّها في هُبُوبِها **** تكادُ تبُثُّ الوَجْدَ لوْ تتكَلمُ
وَكُنتُ إذا ما اشْتدَّ بي الشوقُ والجَوَى **** وكادَتْ عُرَى الصَّبر الجَمِيلِ تَفَصَّمُ
أعَللُ نَفْسِي بالتَّلاقي وَقُرْبِهُ **** وأُوهِمُها لَكِنَّهَا تَتوَهَّمُ
وأتْبعُ طرْفِي وِجْهَةً أنتُمُ بها **** فلِي بحِمَاها مَرْبَعٌ ومُخَيَّمُ
وَأذْكُرُ بَيْتا قالهُ بعضُ مَن خَلا **** وَقدْ ضلَّ عَنْهُ صبُرُهُ فهُوَ مُغْرمُ
أسَائِلُ عَنكُمْ كلَّ غادٍ ورائحٍ **** وأومِي إلى أوطانِكُم وأسَلمُ
وكمْ يَصْبِرُ المُشتاقُ عمَّن يُحِبُّهُ **** وفِي قلبِهِ نارُ الأسَى تتضَرَّمُ
مشهد الحجيج
أمَا وَالذِي حَجَّ الْمُحِبُّونَ بَيْتَهُ **** وَلبُّوا لهُ عندَ المَهَلِّ وَأحْرَمُوا
وقدْ كَشفُوا تِلكَ الرُّؤوسَ توَاضُعًا **** لِعِزَّةِ مَن تعْنو الوُجوهُ وتُسلِمُ
يُهلُّونَ بالبيداءِ لبيك ربَّنا **** لكَ المُلكُ والحَمْدُ الذي أنتَ تَعْلمُ
دعاهُمْ فلبَّوْهُ رِضًا ومَحَبَّةً **** فلمَّا دَعَوهُ كان أقربَ منهمُ
ترَاهُمْ على الأنضاءِ شُعْثًا رؤوسُهُمْ **** وغُبْرًا وهُمْ فيها أسَرُّ وأنْعَمُ
وَقدْ فارَقوا الأوطانَ والأهلَ رغبةً **** ولم يُثنِهِمْ لذَّاتُهُمْ والتَّنَعُّمُ
يَسِيرونَ مِن أقطارِها وفِجاجِها **** رِجالا ورُكْبانا ولله أسْلمُوا
ولمَّا رأتْ أبصارُهُم بيتَهُ الذي **** قلوبُ الوَرَى شوقًا إليهِ تَضَرَّمُ
كأنهمُ لمْ يَنْصَبُوا قطُّ قبْلهُ **** لأنَّ شَقاهُمْ قد ترحَّلَ عنْهُمُ
فلِلَّهِ كمْ مِن عَبْرةٍ مُهْرَاقةٍ **** وأخرى على آثارِها لا تَقَدَّمُ
وَقدْ شَرِقتْ عينُ المُحِبِّ بدَمْعِها **** فينظرُ مِن بينِ الدُّموعِ ويُسْجِمُ
إذا عَايَنَتْهُ العَيْنُ زالَ ظلامُها **** وزالَ عن القلبِ الكئيبِ التألُّمُ
ولا يَعْرِفُ الطرْفُ المُعايِنُ حسْنَهُ **** إلى أن يعودَ الطرْفُ والشوقُ أعْظمُ
ولا عجبٌ مِن ذا فحِينَ أضافهُ **** إلى نفسِهِ الرحمنُ ؛ فهو المعظَّمُ
كسَاهُ منَ الإجْلالِ أعظمَ حُلةٍ **** عليها طِرازٌ بالمَلاحَةِ مُعْلَمُ
فمِنْ أجلِ ذا كلُّ القلوبِ تُحِبُّهُ **** وتَخْضَعُ إجْلالا لهُ وتُعَظِّمُ
ورَاحُوا إلى التَّعْريفِ يَرْجُونَ رحمةً **** ومغفرة مِمَّن يجودُ ويُكرِمُ
فلِلهِ ذاكَ الموقفُ الأعظمُ الذي **** كموقفِ يومِ العَرْضِ بلْ ذاكَ أعظمُ
ويدْنُو بهِ الجبّارُ جَلَّ جلالُهُ **** يُباهِي بهمْ أمْلاكَه فهو أكرَمُ
يقولُ عِبادِي قدْ أتونِي مَحَبَّةً **** وَإنِّي بهمْ بَرٌّ أجُودُ وأرْحَمُ
فأشْهِدُكُمْ أنِّي غَفَرْتُ ذنُوبَهُمْ **** وأعْطيْتُهُمْ ما أمَّلوهُ وأنْعِمُ
فبُشراكُمُ يا أهلَ ذا المَوقفِ الذِي **** به يَغفرُ اللهُ الذنوبَ ويَرحمُ
فكمْ مِن عتيقٍ فيه كَمَّلَ عِتقهُ **** وآخرَ يَسْتسعَى وربُّكَ أرْحَمُ
ومَا رُؤيَ الشيطانُ أغيظَ في الوَرَى **** وأحْقرَ منهُ عندها وهو ألأَمُ
وَذاكَ لأمْرٍ قد رَآه فغاظهُ **** فأقبلَ يَحْثُو التُّرْبَ غَيْظا وَيَلطِمُ
وما عاينتْ عيناه مِن رحمةٍ أتتْ **** ومغفرةٍ مِن عندِ ذي العرْشِ تُقْسَمُ
بَنَى ما بَنى حتى إذا ظنَّ أنه **** تمَكَّنَ مِن بُنيانِهِ فهو مُحْكَمُ
أتَى اللهُ بُنيَانًا له مِن أساسِهِ **** فخرَّ عليه ساقطا يتهدَّمُ
وَكمْ قدْرُ ما يعلو البناءُ ويَنْتهي **** إذا كان يَبْنِيهِ وذو العرش يهدِمُ
وراحُوا إلى جَمْعٍ فباتُوا بمَشعَرِ الْـ **** ـحَرَامِ وصَلَّوْا الفجْرَ ثمَّ تقدَّموا
إلى الجَمْرةِ الكُبرَى يُريدون رَمْيَها **** لوقتِ صلاةِ العيدِ ثمَّ تيَمَّمُوا
منازلَهمْ للنحْرِ يَبغونَ فضلَهُ **** وإحياءَ نُسْكٍ مِن أبيهمْ يُعَظَّمُ
فلوْ كان يُرضِي اللهَ نَحْرُ نفوسِهمْ **** لدانُوا بهِ طوْعًا وللأمرِ سلَّمُوا
كما بَذلُوا عندَ الجِهادِ نُحورَهُمْ **** لأعدائِهِ حتَّى جرَى منهمُ الدَّمُ
ولكنَّهمْ دانُوا بوضْعِ رؤوسِهمْ **** وذلِكَ ذلٌّ للعبيدِ ومَيْسَمُ
ولمَّا تقضَّوْا ذلكَ التَّفَثَ الذِي **** عليهمْ وأوْفَوا نذرَهُمْ ثمَّ تَمَّمُوا
دعاهُم إلى البيتِ العتيقِ زيارةً **** فيَا مرحَبًا بالزائِرين وأكرمُ
فلِلهِ ما أبْهَى زيارتَهُمْ لهُ **** وقدْ حُصِّلتْ تلكَ الجَوائزِ تُقْسَمُ
وَللهِ أفضالٌ هناكَ ونِعْمَةٌ **** وبِرٌّ وإحْسَانٌ وجُودٌ ومَرْحَمُ
وعادُوا إلى تلكَ المنازلِ مِن مِنَى **** ونالُوا مناهُمْ عندَها وتَنَعَّمُوا
أقامُوا بها يومًا ويومًا وثالثًا **** وأذِّنَ فِيهمْ بالرحيلِ وأعْلِمُوا
وراحُوا إلى رمْيِ الجمارِ عَشِيَّةً **** شعارُهُمُ التكْبيرُ واللهُ معْهُمُ
فلو أبْصرَتْ عيناكَ موقفَهمْ بها **** وَقدْ بسَطوا تلكَ الأكفَّ لِيُرْحَمُوا
ينادونَهُ يا ربِّ يا ربِّ إننا **** عبيدُكَ لا ندْعو سواكَ وتَعْلمُ
وها نحنُ نرجو منكَ ما أنتَ أهلُهُ **** فأنتَ الذي تُعْطِي الجزيلَ وتُنْعِمُ
ولمَّا تقضَّوْا مِن مِنًى كلَّ حاجةٍ **** وسالتْ بهمْ تلكَ البِطاحُ تقدَّموا
إلى الكعبةِ البيتِ الحَرامِ عشيةً **** وطافُوا بها سبْعًا وصَلوْا وسَلَّمُوا
آلام الوداع
ولمَّا دَنا التوْدِيعُ منهمْ وأيْقنُوا **** بأنَّ التدَانِي حبْلُهُ مُتَصَرِّمُ
ولمْ يبقَ إلا وقفةٌ لِمُوَدِّعٍ **** فلِلهِ أجفانٌ هناكَ تُسَجَّمُ
وللهِ أكبادٌ هنالِكَ أُودِعَ الْـ **** ـغرامُ بها فالنارُ فيها تَضرَّمُ
وللهِ أنفاسٌ يكادُ بِحَرِّها **** يذوبُ المُحِبُّ المُسْتهَامُ المُتيَّمُ
فلمْ ترَ إلا باهِتًا مُتَحَيِّرًا **** وآخرَ يُبْدِي شجوَهُ يَترَنَّمُ
رَحَلتُ وأشْواقِي إليكمْ مُقِيمَةٌ **** ونارُ الأسَى مِنِّي تَشُبُّ وتَضْرمُ
أوَدِّعُكُمْ والشوقُ يُثنِي أعِنَّتِي **** وقلبيَ أمْسَى فِي حِماكُمْ مُخَيِّمُ
هنالِكَ لا تَثْريبَ يومًا عَلىَ امرئٍ **** إذا ما بَدا منهُ الذي كانَ يَكْتُمُ
فيَا سائِقينَ العِيسَ باللهِ ربِّكمْ **** قِفوا لِي على تلكَ الرُّبوعِ وسَلِّمُوا
وقولوا مُحِبٌّ قادهُ الشوقُ نحوكُمْ **** قضَى نحبَهُ فيكُمْ تَعِيشُوا وَتسْلمُوا
قضَى اللهُ ربُّ العرشِ فيمَا قضَى بهِ **** بأنَّ الهوَى يُعمِي القلوبَ ويُبْكِمُ
وحُبُّكُمُ أصْلُ الهَوَى ومَدَارُهُ **** عليهِ وفوزٌ للمُحِبِّ ومَغْنَمُ
وتفنَى عِظامِ الصَّبِّ بعدَ مَماتِهِ **** وأشواقُهُ وقْفٌ عليهِ مُحَرَّمُ
انتفاضة البعث
فيَا أيُّها القلبُ الذي مَلكَ الهَوَى **** أزِمَّتَهُ حتى مَتى ذا التلوُّمُ
وحَتَّامَ لا تصْحُو وقدْ قرُبَ المَدَى **** ودانتْ كُؤوسُ السَّيْرِ والناسُ نوَّمُ
بَلى سوفَ تصحُو حين ينكشفُ الغَطا **** ويبدو لكَ الأمرُ الذي أنتَ تكتُمُ
ويا مُوقِدًا نارًا لغيركَ ضوؤُها **** وحرُّ لَظاها بينَ جنْبَيْك يَضرِمُ
أهذا جَنَى العلمِ الذي قد غرستَهُ **** وهذا الذي قد كنتَ ترجوهُ يُطْعِمُ
وهذا هو الحظُّ الذي قد رضيتَهُ **** لِنفسكَ في الدارَيْنِ جاهٌ ودِرهمُ
وهذا هو الرِّبحُ الذي قد كسبتَهُ **** لَعمرُكَ لا رِبحٌ ولا الأصلُ يَسْلَمُ
بَخِلتَ بشيءٍ لا يضرُّكَ بذلُهُ **** وجُدْتَ بشيءٍ مثلُهُ لا يُقَوَّمُ
بَخِلتَ بذا الحظِّ الخسِيسِ دناءةً **** وجُدْتَ بدارِ الخُلدِ لو كنتَ تَفهمُ
وبِعْتَ نعيمًا لا انقضاءَ له ولا **** نظيرَ ببخْسٍ عن قليلٍ سيُعْدَمُ
فهلا عكستَ الأمرَ إنْ كنتَ حازمًا **** ولو أضعتَ الحزمَ لو كنتَ تعلَمُ
وتهدِمُ ما تَبنِي بكفِّك جاهدًا **** فأنتَ مَدى الأيامِ تبنِي وتَهْدِمُ
و عندَ مرادِ الله تفنَى كمَيِّتٍ **** وعندَ مرادِ النفسِ تُسْدِي وتُلْحِمُ
وعند خِلافِ الأمر تحتَجُّ بالقَضَاء **** ظهيرًا على الرحمن للجَبْرِ تزْعُمُ
تُنَزِّهُ منكَ النفسَ عن سوء فِعْلِها **** وتعتِبُ أقدارَ الإلَهِ وتَظْلِمُ
تُحِلُّ أمورا أحكمَ الشرعُ عَقْدَها **** وتقصِدُ ما قد حلَّه الشرْعُ تُبْرِمُ
وتَفهمُ من قولِ الرسولِ خلافَ ما **** أرادَ لأن القلبَ منك مُعجَّمُ
مطيعٌ لِداعِي الغَيِّ عاصٍ لِرُشْدِهِ **** الى ربِّه يومًا يُرَدُّ ويَعلَمُ
مُضِيعٌ لأمرِ اللهِ قد غشَّ نفسَهُ **** مُهينٌ لها أنَّى يُحَبُّ ويُكرَمُ
بطيءٌ عن الطاعاتِ أسرعُ للخَنَا **** مِنَ السيلِ في مَجْرَاهُ لا يَتَقَسَّمُ
وتَزْعم معْ هذا بأنكَ عارفٌ **** كذَبْتَ يقِينًا في الذي أنتَ تزعُمُ
وما أنتَ إلا جاهلٌ ثم ظالمٌ **** وأنكَ بين الجاهلِينَ مُقَدَّمُ
إذا كان هذا نصحُ عبدٍ لنفسِهِ **** فمَنْ ذا الذي منه الهُدَى يُتَعَلَّمُ
وفي مثلِ هذا الحالِ قد قال مَن مَضَى **** و أحسنَ فيما قالَهُ المتَكلِّمُ
فإنْ كنْتَ لا تدرِي فتلكَ مُصيبةٌ **** وإنْ كنتَ تَدْرِي فالمصيبةُ أعْظَمُ
ولو تُبْصِرُ الدنيا وراءَ سُتُورِها **** رأيتَ خيَالا في منامٍ سَيُصْرَمُ
كحُلمٍ بطيفٍ زار في النوم وانقضَى الـْ **** ـمنامُ وراحَ الطيفُ والصبُّ مُغْرَمُ
وظِلٍّ أتتْهُ الشمسُ عند طلوعِها **** سَيُقْلَصُ في وقتِ الزوالِ ويَفْصِمُ
ومُزْنَةِ صيفٍ طابَ منها مَقِيلُها **** فولَّتْ سرِيعًا والحُرُورُ تَضَرَّمُ
ومَطْعَمِ ضيفٍ لذَّ منه مَسَاغُهُ **** وبعدَ قليلٍ حالُهُ تلكَ تُعْلَمُ
كَذا هذهِ الدُّنيا كأحلامِ نائمٍ **** ومِنْ بعدِها دارُ البقاءِ سَتُقْدِمُ
فجُزْها مَمَرًّا لا مقرًّا وكنْ بِها **** غريبًا تَعِشْ فيها حمَيِدًا وتَسْلَمُ
أو ابنَ سبيلٍ قالَ في ظِلِّ دَوْحَةٍ **** وراحَ وخلَّى ظِلَّها يَتَقَسَّمُ
أخا سَفَرٍ لا يستقرُّ قَرارُهُ **** إلى أنْ يَرى أوطانَهُ ويُسَلِّمُ
فيا عجبًا ! كمْ مَصْرَعٍ وَعَظَتْ بِهِ **** بنِيها ولكنْ عن مَصارعِها عَمُوا
سقتْهمْ كؤوسَ الحُبِّ حَتى إذا نَشَوْا **** سقتْهم كؤوسَ السُّمِّ والقومُ نُوَّمُ
و أعجبُ ما في العَبْدِ رؤيةُ هذه الـْ **** ـعَظائِمِ والمغمورُ فيها مُتَيَّمُ
وما ذاك إلا أنَّ خمرةَ حُبِّها **** لَتَسْلِبُ عقلَ المرءِ منه وتَصْلِمُ
وأعجبُ مِن ذا أن أحبَابَها الأُلى **** تُهينُ ولِلأَعْدَا تُراعِي وتُكْرِمُ
وذلكَ بُرهانٌ على أنّ قدْرَها **** جناحُ بعوضٍ أو أدقُّ و أَلْأَمُ
وحَسْبُكَ ما قال الرسولُ مُمَثِّلا **** لها ولِدارِ الخُلدِ والحقُّ يُفهَمُ
كما يُدلِيَ الإنسانُ في اليمِّ أُصْبُعًا **** ويَنْزِعهُا عنه فما ذاكَ يَغْنَمُ
أمنيات
ألا ليتَ شِعْري هلْ أبِيتَنَّ ليلةً **** على حَذَرٍ مِنها وأمْريَ مُبْرَمُ
وهلْ أرِدَنْ ماءَ الحياةِ وأرْتَوِي **** عَلى ظمأ مِن حوضِهِ وهوَ مُفْعَمُ
وهلْ تَبْدُوَنْ أعلامُها بعدَما سَفَتْ **** على رَبْعِها تِلكَ السَّوافِي فَتُعْلَمُ
وهلْ أفرِشَنْ خدِّي ثَرَى عتَبَاتِهِمْ **** خُضُوعًا لَهم كَيْما يَرِقُّوا ويَرْحَمُوا
وهلْ أرْمِيَنْ نفسِي طرِيحًا ببابِهم **** وطَيْرُ منايا الحبِّ فوقي تُحَوِّمُ
فيا أسفِي تفنَى الحياةُ وتنقضي **** وذا العتْبُ باقٍ ما بَقِيتُمْ وعِشْتُمُ
فما منكمُ بُدٌّ ولا عنكم غِنًى **** ومالِيَ مِن صَبْرٍ فأسْلُوَ عنْكُمُ
ومَن شاءَ فلْيَغْضَبْ سواكُم فلا أذًى **** إذا كنتمُ عن عبْدِكُمْ قدْ رَضِيتُمُ
وعُقْبَى اصْطِباري فِي هَواكُم حميدةٌ **** ولكنها عنكمْ عِقابٌ ومَأثَمُ
وما أنا بالشاكي لما ترتَضونَهُ **** ولكنَّنِي أرضَى به و أُسَلِّمُ
وحَسْبِي انْتِسابي مِن بُعَيْدٍ إلَيْكُمُ **** ألا إنهُ حظٌّ عظيمٌ مُفْخَّمُ
إذا قيلَ هذا عبدُهُم ومُحِبُّهُم **** تَهَلَّلَ بِشْرًا وجهُهُ يَتَبَسَّمُ
وها هو قد أبدَى الضراعةَ سائلا **** لكمْ بِلِسانِ الحالِ والقالِ مُعْلِمُ
أحِبَّتَهُ عَطْفًا عليهِ فإنهُ **** لَفِي ظمأٍ والموردُ العَذْبُ أنْتُمُ
سبيل النجاة
فَيَا ساهِيا في غمْرَةِ الجهلِ والهَوَى **** صريعَ الأماني عن قَريبٍ ستَنْدَمُ
أفِقْ قد دَنا الوقتُ الذي ليْس بَعدَهُ **** سِوى جنةِ أو حرِّ نار تضرَّمُ
وبالسُّنَّة الغرَّاء كنْ متمسِّكًا **** هي العُرْوةُ الوُثقى التي ليْس تُفْصَمُ
تمَسَّكْ بها مَسْكَ البخيلِ بِمالِهِ **** وعَضَّ عليها بالنواجِذِ تسْلَمُ
وَدَعْ عنكَ ما قد أحدثَ الناسُ بَعدَها **** فمَرْتعُ هاتيكَ الحوادثِ أوْخَمُ
وهَيِّئْ جوابًا عندما تسمعُ النِّدا **** مِن اللهِ يومَ العرضِ ماذا أجبْتُمُ
بِهِ رُسُلي لَمّا أتوْكُمْ فمَنْ يَكُنْ **** أجابَ سِواهمْ سوف يُخْزَى ويَنْدَمُ
وخُذ مِن تُقى الرحمنِ أعظمَ جُنَّةٍ **** ليومٍ بِهِ تبدو عَيَانًا جهنمُ
ويُنْصَبُ ذاكَ الجسرُ من فوق مَتْنِها **** فهاوٍ ومَخدوشٌ وناجٍ مُسَلَّمُ
ويأتي إلَهُ العالمين لِوعْدِهِ **** فيفْصِلُ ما بين العبادِ ويَحْكُمُ
ويأخذُ لِلمظلومِ ربُّكَ حَقَهُ **** فيا بُؤْسَ عَبْدٍ للخلائقِ يَظْلِمُ
ويُنْشَر دِيوانُ الحسابِ وتوضعُ الْـ **** ـموازينُ بالقِسط الذي ليس يَظلِمُ
فلا مُجرمٌ يَخشَى ظلامةَ ذرَّةٍ **** ولا مُحسِنٌ مِن أجرِهِ ذاكَ يُهْضَمُ
وتشهَدُ أعضاءُ المسيءِ بما جَنَى **** كذاكَ على فِيهِ المهيمنُ يَختِمُ
فيا ليْتَ شِعري كيفَ حالكُ عندَما **** تطايَرُ كُتبُ العالمينَ وتُقسَمُ
أتأخذُ باليُمنَى كتابَكَ أمْ تَكُنْ **** بأخرى وراءَ الظَّهْرِ منكَ تُسَلَّمُ
وتقرأُ فيه كلَّ شيءٍ عمِلْتَهُ **** فيُشْرِقُ منكَ الوَجْهُ أو هُوَ يُظْلِمُ
تقولُ كتابِي فاقرؤُوهُ فإنهُ **** يُبَشِّرُ بالفوزِ العظيمِ ويُعْلِمُ
وإنْ تكنِ الأخرى فإنكَ قائلٌ **** ألَا ليتنِي لَمْ أوتَهْ فهو مُغْرَمُ
فبادِر إذا مادام في العمر فُسْحَةٌ **** وعَدْلُكَ مقبولٌ وصرْفُكَ قيِّمُ
وَجِدَّ وسارِعْ واغتَنِمْ زمَنَ الصِّبا **** ففي زمن الإمْكانِ تسْعَى وتَغْنَمُ
وسِر مُسْرِعًا فالسَّيْرُ خلفَكَ مُسْرِعًا **** وهيهاتَ ما منهُ مَفَرٌّ ومَهْزَمُ
فهُنَّ المنايا أيَّ وادٍ نَزَلْتَهُ **** عليها القُدُومُ أو عليكَ ستَقْدمُ
بلاد الأشواق
وَمَا ذاكَ إلا غيْرةً أن ينالَها **** سِوَى كُفئِها والربُّ بالخَلْقِ أعْلَمُ
وإنْ حُجِبَتْ عنَّا بكلِّ كريهةٍ **** وحُفَّتْ بما يؤذي النفوسَ ويُؤلِمُ
فَلِلهِ ما في حَشْوِها مِن مَسرَّةٍ **** وأصنافِ لذَّاتٍ بِها نَتَنَعَّمُ
ولله بَرْدُ العيشِ بينَ خِيامِها **** ورَوضاتِها والثغرُ في الروضِ يَبْسُمُ
فَلِلَّهِ واديها الذي هوَ موعدُ الْـ **** ـمَزيدِ لِوَفدِ الحُبِّ لو كنتَ مِنهمُ
بِذيَّالِكَ الوادي يَهيمُ صَبابَةً **** مُحِبٌّ يرى أن الصَّبابَةَ مغنَمُ
وَلله أفراحُ المُحِبين عندما **** يُخاطِبُهُم مِن فوقِهم ويُسَلِّمُ
ولله أبصارٌ ترى اللهَ جَهرةً **** فلا الضَّيْمُ يَغْشاها ولا هي تَسْأمُ
فيا نَظرةً أهْدَتْ إلى القلب نَضْرَةً **** أمِنْ بَعْدِها يَسْلو المحُبُّ المتيَّمُ
ولله كمْ مِن خَيْرَةٍ لو تَبَسَّمَتْ **** أضاءَ لَها نورٌ مِن الفَجْرِ أعظَمُ
فيَا لذةَ الأبْصارِ إنْ هِيَ أقبَلَتْ **** ويا لذَّةَ الأسْماعِ حينَ تَكَلَّمُ
ويا خَجْلَةَ الغُصْنِ الرطيبِ إذا انْثَنَتْ **** ويا خَجْلَةَ البَحرَيْنِ حين تَبَسَّمُ
فإن كنتَ ذا قلبٍ عليلٍ بِحُبِّها **** فلم يبقَ إلا وصْلُها لكَ مَرْهَمٌ
ولا سِيَّما في لَثْمِها عندَ ضمِّها **** وقد صارَ منها تحتَ جيدِكَ مِعْصَمُ
يَراها إذا أبْدَتْ لهُ حُسْنَ وجْهها **** يلذُّ بِها قبلَ الوِصالِ ويَنْعَمُ
تفَكَّهُ منها العينُ عند اجتِلائِها **** فواكهَ شتَّى طلعُها ليس يُعْدَمُ
عناقِدَ مِن كرْمٍ وتُفّاحَ جنَّةٍ **** ورُمانَ أغْصانٍ بِها القلبُ مُغْرَمُ
ولِلوَرْدِ ما قدْ ألْبَسَتْهُ خُدودها **** ولِلخَمْرِ ما قد ضمَّهُ الرِّيقُ والفَمُ
تَقَسَّمَ منها الحُسْنُ في جَمْعِ واحِدٍ **** فيَا عَجَبًا مِن واحِدٍ يَتَقَسَّمُ
تُذكِّرُ بالرحمنِ مَن هو ناظرٌ **** بِجملتِها أنَّ السُّلُوَّ مُحَرَّمُ
لَها فِرَقٌ شَتَّى مِنَ الحُسْنِ أُجْمِعَتْ **** فينطِقُ بالتَّسبيحِ لا يَتَلَعْثَمُ
إذا قابلتْ جيشَ الهُمومِ بِوجْهها **** تولىَّ على أعقابِه الجيشُ يُهْزَمُ
ولَمّا جرَى ماءُ الشبابِ بِغُصْنِها **** تَيَقَنّ حقًّا أنَّهُ ليسَ يُهْزَمُ
فيَا خاطبَ الحسْناءِ إنْ كُنْتَ راغِبًا **** فهذا زمانُ المَهْرِ فهو المقدَّمُ
وكنْ مُبْغِضًا للخائناتِ لحبِّها **** فتحظى بِها مِن دونِهنَّ وتنعمُ
وكنْ أيّمًا مما سواها فإنها **** لِمثلكَ في جناتِ عدن تأيّمُ
وصمْ يومَك الأدْنى لعلكَ في غدٍ **** تفوزُ بِعِيدِ الفِطْرِ والناسُ صُوَّمُ
وأقدِمْ ولا تقْنَعْ بعَيْشٍ مُنَغَّصٍ **** فما فازَ باللذاتِ مَن ليس يقدمُ
وإن ضاقتِ الدنيا عليكَ بأسرِها **** ولم يكُ فيها منزلٌ لكَ يُعلَمُ
فحيَّ على جناتِ عدْنٍ فإنَّها **** منازلكَ الأولى وفيها المخيَّمُ
ولكننا سَبْيُ العدوِّ فهل ترى **** نعودُ إلى أوطانِنا ونسلَّمُ
وقد زعموا أن الغريبَ إذا نأى **** وشطَّتْ به أوطانُه فهو مؤلم
وأيُّ اغترابٍ فوق غربَتِنا التي **** لها أضحتِ الأعداءُ فينا تَحَكَّمُ
وحيَّ على روضاتِها وخيامِها **** وحيَّ على عيشٍ بها ليسَ يُسْأمُ
وحيَّ على السوقِ الذي فيه يلتقِي الْـ **** ـمُحِبُّون ذاكَ السوق للقومِ يُعلَمُ
فما شئتَ خذْ منه بلا ثمنٍ له **** فقد أسلفَ التجار فيه وأسلمُوا
وحيَّ على يومِ المزيدِ الذي به **** زيارةُ ربِّ العرشِ فاليوم موسِمُ
وحيّ على وادٍ هنالكَ أفْيَح **** وتُرْبَتُهُ مِن أذفرِ المِسكِ أعظَمُ
منابر مِن نورٍ هناك وفضةٍ **** ومن خالِصِ العِقْيانِ لا تتفصَّمُ
ومِنْ حوْلِها كثبانُ مِسْكٍ مقاعدٌ **** لمِن دونهم هذا العطاءُ المفخَّمُ
يرونَ به الرحمنَ جلَّ جلالُه **** كرؤيةِ بدرِ التَّمِّ لا يُتَوَهَّمُ
وكالشمسِ صحْوًا ليس مِن دون أفْقِها **** سحابٌ ولا غيمٌ هناكَ يغيّمُ
فبينا همُ في عيشِهِم وسرورِهم **** وأرزاقُهُم تجرى عليهِمْ وتُقْسَمُ
إذا همْ بنور ساطعٍ قد بدا لهمْ **** سلامٌ عليكم طبْتُم ونَعِمْتُمُ
سلامٌ عليكمْ يَسمعونَ جميعُهُم **** بآذانِهم تسليمُهُ إذْ يُسَلِّمُ
يقولُ : سلوني ما اشْتَهَيْتُمْ فكلُّ ما **** تُريدون عِندي إنني أنا أرْحَمُ
فقالوا جميعًا نحن نسألكَ الرِّضا **** فأنتَ الذي تُولي الجميلَ وتَرْحَمُ
فيُعطيهمُ هذا ويُشهِدُ جَمْعَهمْ **** عليهِ تعالى اللهُ فاللهُ أكرمُ
فَبِاللهِ ما عُذْرُ امرئٍ هو مؤمنٌ **** بِهذا ولا يَسعى له ويقدّمُ
ولكنما التوفيقُ بالله إنَّهُ **** يَخصُّ به مَنْ شاءَ فضلا ويُنْعِمُ
فيا بائِعًا هذا بِبَخْسٍ مُعَجَّلٍ **** كأنكَ لا تدري بل سوفَ تَعْلَمُ
نهاية المطاف
فقدِّمْ فدَتْكَ النفسُ نفسَكَ إنَّها **** هي الثمنُ المَبْذولُ حين تُسَلّمُ
وخضْ غَمَراتِ الموتِ وارْقَ معارجَ الْـ **** ـمحبَّةِ في مرضاتِهم تتسَنَّمُ
وسلِّمْ لَهُم ما عاقَدُوكَ عليهِ إنْ **** تُرِدْ منهُمُ أن يَبْذُلُوا ويُسَلِّمُوا
فما ظفرتْ بالوصْلِ نفسٌ مَهِينَةٌ **** ولا فازَ عبْدٌ بالبَطالَةِ يَنْعَمُ
وإنْ تكُ قد عاقَتْكَ سُعْدَى فقَلْبُكَ الْـ **** ـمُعَنَّى رهينٌ في يَدَيْها مُسَلَّمُ
وقد ساعدتْ بالوصل غيرَكَ فَالهوى **** لها مِنْكَ والواشِي بِها يَتَنَعَّمُ
فدَعْها وسَلِّ النفسَ عنها بِجَنَّةٍ **** من العِلم في روضاتِها الحقّ يَبسُمُ
وقد ذُلِّلَتْ منها القُطُوفُ فمَنْ يُرِدْ **** جَناها يَنَلْهُ كيف شاءَ ويَطْعَمُ
وقد فُتِحَتْ أبْوابُها وتَزَيَّنَتْ **** لِخُطّابِها فالحسْنُ فيها مُقسّمُ
وقدْ طابَ منها نُزْلُها ونَزيلُها **** فطوبَى لِمَنْ حلُّوا بِها وتنَعَّمُوا
أقامَ على أبوابِها داعِي الهُدَى **** هَلُمُّوا إلى دارِ السّعادةِ تَغْنَمُوا
وقد غرسَ الرحمنُ فيها غِراسَهُ **** مِن الناسِ والرحمنُ بالخَلْقِ أعْلَمُ
ومَن يَغْرِسِ الرحمنُ فيها فإنَّه **** سعيدٌ وإلا فالشَّقاءُ مُحَتَّمُ