قصيدة أحاديث الأبواب – للشاعر العراقي أحمد مطر

كنا أسيادا في الغابة. قطعونا من جذورنا. قيدونا بالحديد. ثم أوقفونا خدما على عتباتهم. هذا هو حظنا من التمدن. ليس في الدنيا من يفهم حرقة العبيد مثل الأبواب!

نص قصيدة: أحاديث الأبواب – أحمد مطر

(1)

«كنا أسيادا في الغابة.

قطعونا من جذورنا.

قيدونا بالحديد. ثم أوقفونا خدما على عتباتهم.

هذا هو حظنا من التمدن.»

ليس في الدنيا من يفهم حرقة العبيد

مثل الأبواب!


(2)

ليس ثرثارا.

أبجديته المؤلفة من حرفين فقط

تكفيه تماما

للتعبير عن وجعه:

«طق»‍!


(3)

وحده يعرف جميع الأبواب

هذا الشحاذ.

ربما لأنه مثلها

مقطوع من شجرة!


(4)

يكشط النجار جلده..

فيتألم بصبر.

يمسح وجهه بالرمل..

فلا يشكو.

يضغط مفاصله..

فلا يطلق حتى آهة.

يطعنه بالمسامير..

فلا يصرخ.

مؤمن جداً

لا يملك إلا التسليم

بما يصنعه

الخلاق!


(5)

«العبوا أمام الباب»

يشعر بالزهو.

السيدة

تأتمنه على صغارها!


(6)

قبضته الباردة

تصافح الزائرين

بحرارة!


(7)

صدره المقرور بالشتاء

يحسد ظهره الدافئ.

صدره المشتعل بالصيف

يحسد ظهره المبترد.

ظهره، الغافل عن مسرات الداخل

يحسد صدره

فقط

لأنه مقيم في الخارج!


(8)

يزعجهم صريره.

لا يحترمون مطلقا..

أنين الشيخوخة!


(9)

ترقص

وتصفق.

عندها

حفلة هواء!


(10)

مشكلة باب الحديد

إنه لا يملك

شجرة عائلة!


(11)

حلقوا وجهه.

ضمخوا صدره بالدهن.

زرروا أكمامه بالمسامير الفضية.

لم يتخيل،

بعد كل هذه الزينة،

أنه سيكون

سروالا لعورة منزل!


(12 )

طيلة يوم الجمعة

يشتاق إلى ضوضاء الأطفال

باب المدرسة.

طيلة يوم الجمعة

يشتاق إلى هدوء السبت

باب البيت!


(13)

كأن الظلام لا يكفي..

هاهم يغطون وجهه بستارة.

«لست نافذة يا ناس..

ثم إنني أحب أن أتفرج.»

لا أحد يسمع احتجاجه.

الكل مشغول

بمتابعة المسرحية!


(14)

أهو في الداخل

أم في الخارج؟

لا يعرف.

كثرة الضرب

أصابته بالدوار!


(15)

باب الكوخ

يتفرج بكل راحة.

مسكين باب القصر

تحجب المناظر عن عينيه، دائما،

زحمة الحراس!


(16)

«يعمل عملنا

ويحمل اسمنا

لكنه يبدو مخنثا مثل نافذة.»

هكذا تتحدث الأبواب الخشبية

عن الباب الزجاجي!


(17)

لم تنسه المدينة أصله.

ظل، مثلما كان في الغابة،

ينام واقفا!


(18)

المفتاح

النائم على قارعة الطريق..

عرف الان،

الان فقط،

نعمة أن يكون له وطن،

حتى لو كان

ثقبا في باب!


(19)

«- من الطارق؟

- أنا محمود .»

دائما يعترفون ..

أولئك المتهمون بضربه!


(20)

ليس لها بيوت

ولا أهل.

كل يوم تقيم

بين أشخاص جدد..

أبواب الفنادق!


(21)

لم يأت النجار لتركيبه.

كلاهما، اليوم،

عاطل عن العمل!


(22)

- أحيانا يخرجون ضاحكين،

وأحيانا.. مبللين بالدموع،

وأحيانا.. متذمرين.

ماذا يفعلون بهم هناك؟!

تتساءل

أبواب السينما.


(23)

«طق.. طق.. طق»

سددوا إلى وجهه ثلاث لكمات..

لكنهم لم يخلعوا كتفه.

شرطة طيبون!


(24)

على الرغم من كونه صغيرا ونحيلا،

اختاره الرجل من دون جميع أصحابه.

حمله على ظهره بكل حنان وحذر.

أركبه سيارة.

«منتهى العز».. قال لنفسه.

وأمام البيت

صاح الرجل: افتحوا..

جئنا بباب جديد

لدورة المياه!


(25)

- نحن لا نأتي بسهولة.

فلكي نولد،

تخضع أمهاتنا، دائما،

للعمليات القيصرية.

يقول الباب الخشبي،

وفي عروقه تتصاعد رائحة المنشار.

- رفات المئات من أسلافي..

المئات.

صهرت في الجحيم..

في الجحيم.

لكي أولد أنا فقط.

يقول الباب الفولاذي!


(26)

- حسنا..

هو غاضب من زوجته.

لماذا يصفقني أنا؟!


(27)

لولا ساعي البريد

لمات من الجوع.

كل صباح

يمد يده إلى فمه

ويطعمه رسائل!


(28)

«إنها الجنة..

طعام وافر،

وشراب،

وضياء،

ومناخ أوروبي.»

يشعر بمنتهى الغبطة

باب الثلاجة!


(29)

- لا أمنع الهواء ولا النور

ولا أحجب الأنظار.

أنا مؤمن بالديمقراطية.

- لكنك تقمع الهوام.

- تلك هي الديمقراطية!

يقول باب الشبك.


(30)

هاهم ينتقلون.

كل متاعهم في الشاحنة.

ليس في المنزل إلا الفراغ.

لماذا أغلقوني إذن؟!


(31)

وسيط دائم للصلح

بين جدارين متباعدين!


(32)

في ضوء المصباح

المعلق فوق رأسه

يتسلى طول الليل

بقراءة

كتاب الشارع!


(33)

«ماذا يحسب نفسه؟

في النهاية هو مثلنا

لا يعمل إلا فوق الأرض.»

هكذا تفكر أبواب المنازل

كلما لاح لها

باب طائرة.


(34)

من حقه

أن يقف مزهوا بقيمته.

قبض أصحابه

من شركة التأمين

مائة ألف دينار،

فقط..

لأن اللصوص

خلعوا مفاصله!


(35)

مركز حدود

بين دولة السر

ودولة العلن.

ثقب المفتاح!


(36)

- محظوظ ذلك الواقف في المراب.

أربع قفزات في اليوم..

ذلك كل شغله.

- بائس ذلك الواقف في المراب.

ليس له أي نصيب

من دفء العائلة!


(37)

ركبوا جرسا على ذراعه.

فرح كثيرا.

منذ الان،

سيعلنون عن حضورهم

دون الاضطرار إلى صفعه!


(38)

أكثر ما يضايقه

أنه محروم

من وضع قبضته العالية

في يد طفل!


(39)

هم عينوه حارسا.

لماذا، إذن،

يمنعونه من تأدية واجبه؟

ينظر بحقد إلى لافتة المحل:

«نفتح ليلا ونهارا»!


(40)

- أما أنا.. فلا أسمح لأحد باغتصابي.

هكذا يجمل غيرته

الحائط الواقف بين الباب والنافذة.

لكن الجرذان تضحك!


(41)

فمه الكسلان

ينفتح

وينغلق.

يعب الهواء وينفثه.

لا شغل جديا لديه..

ماذا يملك غير التثاؤب؟!


(42)

معاق

يتحرك بكرسي كهربائي..

باب المصعد!


(43)

هذا الرجل لا يأتي، قط،

عندما يكون صاحب البيت موجودا!

هذه المرأة لا تأتي، أبدا،

عندما تكون ربة البيت موجودة!

يتعجب باب الشارع.

باب غرفة النوم وحده

يعرف السبب!


(44)

«منتهى الإذلال.

لم يبق إلا أن تركب النوافذ

فوق رؤوسنا.»

تتذمر

أبواب السيارات!


(45)

- أنت رأيت اللصوص، أيها الباب،

لماذا لم تعط أوصافهم؟

- لم يسألني أحد!


(46)

تجهل تماما

لذة طعم الطباشير

الذي في أيدي الأطفال،

تلك الأبواب المهووسة بالنظافة!


(47)

- أأنت متأكد أنه هو البيت؟

- أظن..

يتحسر الباب:

تظن يا ناكر الود؟

أحقا لم تتعرف على وجهي؟!


(48)

وضعوا سعفتين على كتفيه.

- لم أقم بأي عمل بطولي.

كل ما في الأمر

أن صاحب البيت عاد من الحج.

هل أستحق لهذا

أن يمنحني هؤلاء الحمقى

رتبة «لواء»؟!


(49)

ليتسلل الرضيع..

لتتوغل العاصفة..

لا مانع لديه إطلاقا.

منفتح!


(50)

الجرس الذي ذاد عنه اللطمات..

غزاه بالأرق.

لا شيء بلا ثمن!


(51)

يقف في استقبالهم.

يضع يده في أيديهم.

يفتح صدره لهم.

يتنحى جانبا ليدخلوا.

ومع ذلك،

فإن أحدا منهم

لم يقل له مرة:

تعال اجلس معنا!


(52)

في انتظار النزلاء الجدد..

يقف مرتعدا.

علمته التجربة

أنهم لن يدخلوا

قبل أن يغسلوا قدميه

بدماء ضحية!


(53)

«هذا بيتنا»

في خاصرتي، في ذراعي،

في بطني، في رجلي.

دائما ينخزني هذا الولد

بخطه الركيك.

يظنني لا أعرف!


(54)

«الولد المؤدب

لا يضرب الاخرين»

هكذا يعلمونه دائما.

أنا لا أفهم

لماذا يصفونه بقلة الأدب

إذا هو دخل عليهم

دون أن يضربني؟‍!


(55)

- عبرك يدخل اللصوص.

أنت خائنة أيتها النافذة.

- لست خائنة، أيها الباب،

بل ضعيفة!


(56)

هذا الذي مهنته صد الريح..

بسهولة يجتاحه

دبيب النملة!


(57)

«إعبروا فوق جثتي.

إرزقوني الشهادة»

بصمت

تنادي المتظاهرين

بوابة القصر!


(58)

في الأفراح أو في الماتم

دائما يصاب بالغثيان.

ما يبلعه، أول المساء،

يستفرغه، اخر السهرة!


(59)

اخترقته الرصاصة.

ظل واقفا بكبرياء

لم ينزف قطرة دم واحدة.

كل ما في الأمر أنه مال قليلا

لتخرج جنازة صاحب البيت!


(60)

قليل من الزيت بعد الشتاء،

وشيء من الدهن بعد الصيف.

حارس بأرخص أجر!


(61)

نحن ضمادات

لهذه الجروح العميقة

في أجساد المنازل!


(62)

لولاه..

لفقدت لذتها

مداهمات الشرطة!


(63)

هم يعلمون أنه يعاني من التسوس،

لكن أحدا منهم

لم يفكر باصطحابه إلى

طبيب الأسنان!


(64)

- هو الذي انهزم.

حاول، جاهدا، أن يفضني..

لكنني تمنعت.

ليست لطخة عار،

بل وسام شرف على صدري

بصمة حذائه!


(65)

- إسمع يا عزيزي..

إلى أن يسكن أحد هذا البيت المهجور

إشغل أوقات فراغك

بحراسة بيتي.

هكذا تواسيه العنكبوت!


(66)

ما أن تلتقي بحرارة الأجساد

حتى تنفتح تلقائيا.

كم هي خليعة

بوابات المطارات!


(67)

- أنا فخور أيتها النافذة.

صاحب الدار علق اسمه

على صدري.

- يا لك من مسكين!

أي فخر للأسير

في أن يحمل اسم اسره؟!


(68)

فكوا قيده للتو..

لذلك يبدو

منشرح الصدر!


(69)

تتذمر الأبواب الخشبية:

سواء أعملنا في حانة

أم في مسجد،

فإن مصيرنا جميعا

إلى النار!


(70)

في السلسلة مفتاح صغير يلمع.

مغرور لاختصاصه بحجرة الزينة.

- قليلا من التواضع يا ولد..

لولاي لما ذقت حتى طعم الردهة.

ينهره مفتاح الباب الكبير‍!


(71)

يشبه الضمير العالمي.

دائما يتفرج، ساكتا، على ما يجري

باب المسلخ!


(72)

في دكان النجار

تفكر بمصائرها:

- روضة أطفال؟ ربما.

- مطبخ؟ ممكن.

- مكتبة؟ حبذا.

المهم أنها لن تذهب إلى السجن.

الخشب أكثر رقة

من أن يقوم بمثل هذه المهمة!


(73)

الأبواب تعرف الحكاية كلها

من «طق طق»

إلى «السلام عليكم»


اقرأ أيضًا: أجمل قصائد ملك الشعراء أحمد مطر

أحدث أقدم