قصيدة حكم المنية في البرية جار – مرثية أبو الحسن التهامي في رثاء ابنه


أبو الحسن علي بن محمد التهامي من كبار شعراء العرب، مولده ومنشؤه في تهامة باليمن، وسكن في الشام مدة، ثم قصد العراق والتقى الصاحب ابن عباد، وعاد فتقلد الخطابة بجامع الرملة، واتصل بالوزير المغربي فكان من أعوانه في ثورته على الحاكم الفاطمي، قال الباخرزي: «وقصد مصر واستولى على أموالها، وملك أزمة أعمالها، ثم غدر به بعض أصحابه ومعه كتب كثيرة من حسان بن مفرج البدوي إلى بني قرة وهي بلدة في صعيد مصر بالقرب من أسيوط، فصار ذلك سببا للظفر به، وأودع السجن في موضع يعرف بالمنسي عام 416 ه الموافق 1025م، ثم قتل سرا في سجنه في 9 جمادى الأول في العام نفسه، وفي هذا المقال وضعنا لكم أروع قصائده والتي مطلعها: حكم المنية في البرية جار .. ما هذه الدنيا بدار قرار، قالها في رثاء ابنه الصبي والتي تعد من أعظم قصائد الرثاء والحكمة.

نص مرثية أبو الحسن التهامي

حــكـم الـمـنـية فــي الـبـرية جــار
مــــا هــــذه الــدنـيـا بــــدار قــــرار

بـيـنا يــرى الإنـسـان فـيها مـخبرا
حــتـى يـــرى خـبـرا مــن الأخـبـار

طـبـعت عـلـى كـدر وأنـت تـريدها
صــفــوا مــــن الأقــــذار والأكــــدار

ومــكـلـف الأيــــام ضــــد طـبـاعـها
مـتـطـلب فـــي الـمـاء جــذوة نــار

وإذا رجــــوت الـمـسـتحيل فـإنـمـا
تـبـني الـرجـاء عـلـى شـفـير هـار

فـالـعـيش نـــوم والـمـنـية يـقـظـة
والـــمــرء بـيـنـهـما خــيــال ســــار

فــاقـضـوا مــاربـكـم عــجــالا إنــمـا
أعـمـاركـم ســفـر مـــن الأســفـار

وتـراكـضوا خـيـل الـشباب وبـادروا
أن تـــســـتــرد فـــإنــهــن عـــــــوار

فـالدهر يـخدع بـالمنى ويـغص أن
هــنــا ويــهــدم مــــا بــنـى يــبـوار

ليس الزمان وإن حرصت مسالما
خــلــق الــزمـان عـــداوة الأحـــرار

إنـــي وتـــرت بــصـارم ذي رونـــق
أعــــددتــــه لـــطـــلابــة الأوتـــــــار

والـنـفس إن رضـيت بـذلك أوأبـت
مـــنـــقــادة بــــأزمــــة الـــمــقــدار

أثــنــي عــلـيـه بــأثــره ولــــو انـــه
لــــــم يــغــتـبـط أثــنــيـت بـــالاثــار

يــا كـوكـبا مــا كــان أقـصـر عـمـره
وكـــذاك عــمـر كـواكـب الأسـحـار

وهــلال أيــام مـضـى لــم يـستدر
بـــدرا ولـــم يـمـهل لـوقـت ســرار

عـجل الـخسوف عـليه قـبل أوانه
فــمــحـاه قــبــل مــظـنـة الإبــــدار

واســـتــل مــــن أتــرابــه ولــداتــه
كـالـمقلة اسـتـلت مــن الأشـفـار

فـــكــأن قــلــبـي قـــبــره وكـــأنــه
فـــي طــيـه ســـر مـــن الأســـرار

إن يـعـتـبـط صــغـرا فـــرب مـقـمـم
يــبـدو ضـئـيـل الـشـخـص لـلـنظار

إن الـكـواكـب فـــي عــلـو مـحـلها
لـتـرى صـغـارا وهــي غـيـر صـغـار

ولــد الـمـعزى بـعـضه فـإذا مـضى
بـعـض الـفـتى فـالـكل فــي الاثـار

أبــكـيـه ثــــم أقـــول مـعـتـذرا لـــه
وفـــقــت حـــيــن تــركــت ألأم دار

جــــاورت أعــدائــي وجــــاور ربـــه
شــتــان بــيــن جــــواره وجـــواري

أشـكـو بـعادك لـي وأنـت بـموضع
لـولا الـردى لـسمعت فـيه مزاري

والـشرق نـحو الـغرب أقرب شقة
مــن بـعد تـلك الـخمسة الأشـبار

هـيهات قـد علقتك أسباب الردى
واغــتـال عــمـرك قــاطـع الأعـمـار

ولـقـد جـريـت كـمـا جـريـت لـغاية
فـبـلـغتها وأبـــوك فـــي الـمـضـمار

فــإذا نـطـقت فـأنـت أول مـنطقي
وإذا سـكـت فـأنـت فـي أضـماري

أخـفـي مـن الـبرحاء نـارا مـثل مـا
يـخـفي مــن الـنـار الـزنـاد الـواري

وأخـفـض الـزفرات وهـي صـواعق
وأكـفـكـف الـعـبـرات وهـــي جــوار

وشـهـاب نــار الـحـزن إن طـاوعته
أورى وإن عــاصــيــتـه مــــتـــواري

وأكــــف نــيـران الأســـى ولـربـمـا
غــلـب الـتـبـصر فـارتـمـت بـشـرار

ثـــوب الــريـاء يـشـف عـمـا تـحـته
وإذا الـتـحـفـت بــــه فــإنــك عــــار

قـصـرت جـفـوني أم تـبـاعد بـينها
أم صــــورت عـيـنـي بـــلا أشــفـار

جـفـت الـكـرى حـتـى كـأن غـراره
عـنـد اغـتـماض الـعـين وخـز غـرار

ولــو اسـتـزارت رقــدة لـطـحا بـهـا
مــــا بــيـن أجـفـانـي مـــن الـتـيـار

أحيي الليالي التم وهي تميتني
ويــمــيـتـهـن تـــبــلــج الأســـحـــار

حـتـى رأيــت الـصـبح تـهـتك كـفه
بــالـضـوء رفــــرف خـيـمـة كـالـقـار

والـصـبح قــد غـمـر الـنـجوم كـأنـه
سـيـل طـغـى فـطـفا عـلى الـنوار

لـو كـنت تـمنع خـاض دونـك فـتية
مـــنــا بـــحــار عـــوامــل وشـــفــار

ودحـوا فـويق الأرض أرضـا من دم
ثـــم انـثـنـوا فـبـنـوا ســمـاء غــبـار

قــوم إذا لـبسوا الـدروع حـسبتها
خــلـجـا تــمــد بــهــا أكـــف بــحـار

لــو شـرعـوا أيـمـانهم فـي طـولها
طـعـنوا بـهـا عــوض الـقـنا الـخطار

جنبوا الجياد إلى المطى وراوحوا
بــيــن الــسـروج هــنـاك والأكـــوار

وكـأنـمـا مــلـؤوا عــيـاب دروعــهـم
وغــمـود أنـصـلـهم ســـراب قــفـار

وكــأنـمـا صــنــع الــسـوابـغ عـــزه
مـــاء الـحـديـد فــصـاغ مـــاء قـــرار

زردا فـأحـكـم كــل مـوصـل حـلـقة
بـحـبـابة فـــي مــوضـع الـمـسمار

فـتـسـربـلوا بـمـتـون مـــاء جــامـد
وتــقــنـعـوا بــحــبـاب مـــــاء جـــــار

أســــد ولــكــن يــؤثـرون بــزادهـم
والأســــد لــيــس تــديـن بـالإيـثـار

يـتـزين الـنادي بـحسن وجـوههم
كـــتــزيــن الــــهـــالات بـــالأقــمــار

يـتـعطفون عـلـى الـمـجاور فـيـهم
بـالـمـنـفـسات تــعــطـف الاظـــــار

مـن كـل مـن جعل الظبى أنصاره
وكـرمـن واسـتـغنى عــن الأنـصـار

وإذا هــو اعـتـقل الـقناة حـسبتها
صـــــــلا تــأبــطــه هـــزبـــر ضــــــار

والــلـيـث إن ثــاورتـه لـــم يـعـتـمد
إلا عـــلـــى الأنـــيــاب والأظـــفــار

زرد الــدلاص مــن الـطـعان يـريحه
فــي الـجـحفل الـمـتضايق الـجرار

مـــا بــيـن ثـــوب بـالـدماء مـضـمخ
زلــــــق ونـــقــع بــالــطـراد مـــثــار

والـهـون فــي ظــل الـهوينا كـامن
وجــلالـة الأخــطـار فــي الإخـطـار

تــنــدى أســــرة وجــهـه ويـمـيـنه
فـــي حــالـة الإعــسـار والإيـسـار

ويــمــد نــحــو الـمـكـرمات أنــامـلا
لـــلــرزق فــــي أثـنـائـهـن مــجــار

يـحـوي الـمـعالي كـاسبا أو غـالبا
أبـــــدا يــــدارى دونــهــا ويــــداري

قـد لاح فـي لـيل الشباب كواكب
إن أمـهـلـت الـــت إلــى الإسـفـار

وتـلـهب الأحـشاء شـيب مـفرقي
هـــذا الـضـيـاء شــواظ تـلـك الـنـار

شــاب الـقـذال وكـل غـصن صـائر
فـيـنـانـه الأحـــوى إلـــى الإزهـــار

والشبه منجذب فلم بيض الدمى
عــــن بــيـض مـفـرقـه ذوات نــفـار

وتـــود لــو جـعـلت ســواد قـلـوبها
وســــواد أعـيـنـها خــضـاب عـــذار

لا تـنـفر الـظـبيات عـنـه فـقـد رأت
كـيف اخـتلاف الـنبت فـي الأطوار

شــيـئـان يـنـقـشـعان أول وهــلـة
ظــــل الـشـبـاب وخــلـة الأشـــرار

لا حـبـذا الـشـيب الـوفـي وحـبـذا
ظــــل الـشـبـاب الـخـائـن الــغـدار

وطـري مـن الـدنيا الشباب وروقه
فإذا انقضى فقد انقضت أو طاري

قــصـرت مـسـافته ومــا حـسـناته
عــــــنـــــدي ولا الاؤه بــــقــــصـــار

نـــزداد هـمـا كـلـما ازددنــا غـنـى
والـفـقـر كــل الـفـقر فــي الأكـثـار

مــا زاد فــوق الــزاد خـلـف ضـائـعا
فــــــي حـــــادث أو وارث أو عـــــار

إنـــي لأرحـــم حــاسـدي لـحـرمـا
ضـمـنـت صــدورهـم مــن الأوغــار

نــظـروا صـنـيع الله بــي فـعـيونهم
فـــي جــنـة وقـلـوبـهم فـــي نـــار

لا ذنب لي قد رمت كتم فضائلي
فــكـأنـمـا بــرقــعـت وجــــه نــهــار

وسـتـرتـهـا بـتـواضـعي فـتـطـلعت
أعـنـاقـهـا تــعـلـو عــلـى الأســتـار

ومـــن الــرجـال مـعـالم ومـجـاهل
ومـــن الـنـجـوم غــوامـض ودراري

والـناس مـشتبهون فـي إيرادهم
وتـفـاضـل الأقـــوام فـــي الإصــدار

عـمري لـقد أوطـأتهم طـرق العلا
فـعـموا فـلـم يـقـفوا عـلـى اثـاري

لــو أبـصـروا بـقـلوبهم لاسـتـبصروا
وعـمى البصائر من عمى الأبصار

هـلا سـعوا سـعي الكرام فأدركوا
أو ســلــمــوا لــمــواقــع الأقــــــدار

وفـشت خـيانات الـثقات وغـيرهم
حــتــى اتـهـمـنـا رؤيــــة الأبــصــار

ولـربـمـا اعـتـضد الـحـليم بـجـاهل
لا خـيـر فــي يـمـنى بـغـير يـسـار

لـــــلــــه در الـــنــائــبــات فـــإنـــهــا
صــــدأ الــلـئـام وصـيـقـل الأحـــرار

قصيدة: حكم المنية في البرية جار، ما هذه الدنيا بدار قرار – بصوت الشيخ عبد العزيز الأحمد

أحدث أقدم