أتعلم أم أنت لا تعلم – محمد مهدي الجواهري

قصيدة رثاء للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري بعنوان أخي جعفر قالها في أخيه جعفر

قصيدة رثاء للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري بعنوان ”أخي جعفر“ قالها في أخيه جعفر الذي سقط قتيلا في معركة الجسر في كانون الثاني عام 1948م، احتجاجاً على توقيع معاهدة ”بورت سموث“ البريطانية – العراقية.

قصيدة: أخي جعفر

  • للشاعر: محمد مهدي الجواهري

أتــعــلـمُ  أم أنـــــت لا تــعــلـمُ
بــــأنّ  جِــــراح الـضـحـايـا فـــمُ

فـــمٌّ لــيـس كـالـمدعي قـولـةً
ولـــيــس  كـــآخــر يـسـتـرحِـم

يـصيحُ عـلى الـمُدقِعين الـجياع
أريـــقــوا  دمـــاءكُــمُ تُـطـعـمـوا

ويــهـتِـفُ بـالـنّـفـر الـمُـهـطِعين
أهــيــنِـوا  لِــئـامـكـمُ تُــكــرمـوا

أتــعــلـمُ  أنّ رِقـــــاب الــطُـغـاة
أثــقــلـهـا  الــغُــنـمُ والــمــأثـم

وأنّ بـــطــون الــعُــتـاةِ الــتــي
مِـن الـسُحتِ تـهضِمُ مـا تهضم

وأن الــبـغـيّ الــــذي يــدعــي
مــن الـمجد مـا لـم تـحُز مـريم

سـتـنـهدُّ إن فـــار هـــذا الــدمُ
وصـــوّت هـــذا الـفـمُ الأعـجـم

فـيا لـك مِـن مـرهمٍ مـا اهتدى
إلــيــه  الأُســـاة ومـــا رهّــمـوا

ويــا لــك مـن بـلسمٍ يُـشتفى
بـــه حــيـن لا يُـرتـجى بـلـسم

ويــا لــك مــن مـبـسِمٍ عـابسٍ
ثــغــور الأمــانـي بـــه تـبـسِـم

أتــعـلـمُ أنّ جِــــراح الـشـهـيـد
تــظـلُّ عـــن الــثـأر تـسـتـفهِم

أتــعـلـمُ أنّ جِــــراح الـشـهـيـد
مِــن الـجـوعِ تـهـضِمُ مــا تـلهم

تــمُـصُّ دمـــاً ثُــم تـبـغي دمــاً
وتــبــقـى  تُــلِــحُ وتـسـتـطـعِم

فــقُــل لـلـمُـقيمِ عــلـى ذُلّـــهِ
هــجـيـنـاً يُــســخّـرُ أو يُــلـجـم

تـقـحّـم  لُـعِـنت أزيــز الـرّصـاص
وَجــرِّب مــن الـحـظّ مـا يُـقسم

وخُـضها كـما خـاضها الأسبقون
وَثــــنِّ  بــمــا افــتـتـح الأقـــدم

فـإمّـا إلــى حـيثُ تـبدو الـحياة
لِــعـيـنـيْـك مــكــرُمــةً تُــغــنـم

وإمّـــا  إلـــى جــدثٍ لــم يـكُـن
لـيـفـضُـلـه بــيــتُـك الــمُـظـلِـم

تـقـحّـم، لُـعِـنـت فـمـا تـرتـجي
مِــن الـعـيش عــن وِرده تُـحرم

أأوجـــعُ مِـــن أنّـــك الــمُـزدرى
وأقــتــلُ مِــــن أنّـــك الـمُـعـدِم

تـقحّم فـمن ذا يـخوضُ الـمنون
إذا عــافـهـا الأنــكــدُ الأشــــأم

تـقـحّم فـمـن ذا يـلـومُ الـبطين
إذا كـــــان مِــثــلُـك لا يــقـحـم

يـقـولون مــن هـم أولاءِ الـرّعاعُ
فـأفـهِـمـهُمُ  بـــدمٍ مـــن هُـــم

وأفــهِــمـهُـمُ  بــــــدمٍ أنّـــهـــم
عـبـيـدُك إن تـدعُـهـم يـخـدُمـوا

وأنّـــك أشـــرفُ مـــن خـيـرِهم
وكــعـبُـك مِــــن خــــدهِ أكـــرم

أخـــي  جـعـفراً يــا رواء الـربـيع
إلــــى عــفِــنٍ بــــاردٍ يُـسـلـم

ويــا زهــرةً مــن ريـاض الـخُلود
تــغــوّلـهـا  عـــاصـــفٌ مُـــــرزِم

ويــا  قـبـساً مـن لـهيب الـحياة
خـبـا حـيـن شــبّ لــه مـضـرم

ويــا طـلـعة الـبِـشر اذ يـنـجلي
ويــا ضِـحـكة الـفـجر إذ يـبـسِم

لـثـمـتُ  جــراحـك فــي فـتـحةٍ
هـي الـمُصحف الـطُهرُ إذ يُـلثم

وقـبّـلتُ صـدرك حـيثُ الـصّميم
مِـــن الـقـلـب مُـنـخـرقاً يُـخـرم

وحــيـثُ تــلـوذُ طــيـورُ الـمُـنى
بــــه  فــهــى مُــفـزعـةً حـــوّم

وحـيثُ اسـتقرّت صِفاتُ الرجال
وضــــــمّ مــعــادِنـهـا مــنــجـم

ورّبـــتُّ  خـــدّاً بــمـاءِ الـشـباب
يـــــرفُّ  كــمــا نــــوّر الــبُـرعُـم

ومّـسـحتُ مِــن خُـصـلٍ تـدّلـي
عـلـيـه  كــمـا يـفـعـلُ الـمُـغـرم

وعـلّلتُ نـفسي بـذوب الـصديد
كـــمــا  عــلّــلـت وارداً زمــــزم

ولــقّـطـتُ  مِــــن زبـــدٍ طــافـحٍ
بـثـغـرك شــهـداً هـــو الـعـلقم

وعــوّضـت  عــن قُـبـلتي قُـبـلةً
عــصـرت بــهـا كـــلّ مــا يـؤلِـم

عـصـرت بـهـا الـذكـرياتِ الـتـي
تـقـضّـت  كــمـا يـحـلُـمُ الــنـوّم

أخـي جـعفراً إنّ رجـع الـسنين
بــعـدك عـنـدي صــدىً مُـبـهم

ثــلاثــون رُحــنــا عـلـيـها مــعـاً
نـــعــذّبُ  حــيــنـاً ونـسـتـنـعِـم

نُــكـافـحُ دهــــراً ويـسـتـسـلِمُ
ونُــغـلـبُ  طــــوراً ونـسـتـسلِم

أخــي جـعـفراً لا أقــولُ الـخيال
وذو الــثــأرِ يــقـظـانُ لا يـحـلُـم

ولــكـن بــمـا أُلــهِـم الـصـابرون
وقـــد  يـقـرأُ الـغـيب مُـسـتلهِم

أرى أُفُـــقــاً بــنـجـيـع الــدمــاءِ
تـــنـــوّر  واخــتــفـتِ الأنـــجُــم

وحـبـلاً مــن الأرض يُـرقـى بــه
كــمـا قـــذف الـصـاعد الـسُـلّم

إذا  مـــــدّ كــفّــاً لــــه نــاكــث
تـــصــدّى لـيـقـطـعـها مُـــبــرِم

تــكــوّر  مــــن جُــثــثٍ حــولــه
ضِــخــامٍ وأمــجـادُهـا أضــخــم

وكـــفّــاً  تُــمــدُّ وراء الــحـجـاب
فـترسُمُ فـي الأفـقِ مـا تـرسُم

وجــيـلاً  يـــروحُ وجـيـلاً يـجـيء
ونــــــاراً  إزاءهـــمـــا تُـــضـــرم

أُنــبّـيـك  أنّ الــحِـمـى مُـلـهـبٌ
وواديــــه  مــــن ألــــمٍ مُـفـعـم

ويـــا ويْـــح خـانـقـةٍ مِـــن غــدٍ
إذا نــفّـس الــغـدُ مـــا يـكـظـم

وأنّ  الـــدمــاء الـــتــي طــلّـهـا
مُــــــدِّلٌّ  بــشُـرطـتـهُ مُـــعــرم

تـنضّحُ مـن صـدرِك الـمُستطاب
نــزيـفـاً إلــــى الله يـسـتـظـلِم

سـتـبقى طـويـلاً تـجُـرُّ الـدمـاء
ولــــن يُــبــرِد الـــدم إلاّ الـــدم

وأنّ الـــصــدور الـــتــي فــلّـهـا
وأبــــدع!  فـــي فـلِّـهـا مُــجـرم

ونــــثّـــر  أضـــلاعــهــا نـــثـــرة
شـتـاتـاً كــمـا صُــرّف الـدرهـم

سـتحضُنُها مـن صُـدور الشباب
قُـسـاةٌ عـلـى الـحـقِ لا تـرحم

أخــي جـعـفراً إنّ عِـلم الـيقين
أُنــبّـيـك إن كــنــت تـسـتـعـلِم

صُـرِعت فـحامت عـليك القلوب
وخــــفّ لـــك الــمـلأُ الأعــظـم

وسُــــدّ الـــروُاقُ فـــلا مــخـرجٌ
وضـــاق الـطـريـقُ فــلا مـخـرم

وأبـلـغ عـنـك الـجنوبُ الـشّمال
وعــزّى بــك الـمُعرِق الـمُشئِم

وشـقّ عـلى الـهاتفِ الـهاتفون
وضـــجّ مــن الأسـطُـرِ الـمـرِقم

تـعـلّمت كـيـف تـمـوتُ الـرجـال
وكــيــف  يُــقــامُ لــهــم مــأتـم

وكــيـف  تُــجـرُّ إلــيـك الـجـموعُ
كــمـا  انــجـرّ لـلـحـرمِ الـمُـحرِم

ضـحِكتُ وقـد هـمهم السائلون
وشقّ على السمعِ ما همهموا

يـقـولـون مِـــتّ وعـنـد الأســاةِ
غــيــر الـــذي زعــمـوا مــزعـم

وأنـــت  مُـعـافى كـمـا نـرتـجي
وأنــــت  عــزيــزٌ كــمــا تــعـلـم

ضـحِـكـتُ وقــلـتُ هـنـيئاً لـهـم
ومـــا لـفّـقـوا عــنـك أو رجّـمـوا

فــهـم يـبـتغون دمــاً يـشـتفي
بـــه الأرمـــدُ الـعـيـنِ والأجــذم

دمــاً يُـكـذِبُ الـمـخلصون الأبـاة
بـــه  الـمـارقـين ومـــا قـسّـموا

وهـــم  يـبـتـغون دمـــاً تـلـتقي
عــلــيـة الــقُـلـوب وتـسـتـلـئم

إلــى  أن صـدقـت لـهـم ظـنّهم
فــيـا  لـــك مـــن غـــارِمٍ يـغـنم

فــهـم بـــك أولــى فـلّـما نــزل
كــجِـذرٍ  عــلـى عـــددٍ يُـقـسم

وهـــم بــك أولــى وإن روِّعــت
عــجـوزٌ  عــلـى فِــلـذةٍ تـلـطِـم

وتـكـفُـرُ  أن الـسـمـا لـــم تـعـد
تُــغــيـثُ  حــريــبـاً ولا تـــرحــم

وأُخــتٌ تـشـقُّ عـلـيك الـجيوب
فـيـغـرزُ فـــي صـدرهـا مِـعـصم

تـنـاشِـدُ  عـنـك بـريـق الـنُّـجوم
لــعـلّـك  مِــــن بـيـنـهـا تـنـجُـم

وتــزعُـمُ  أنّـــك تــأتـي الـصّـباح
وقـــد  كــذّب الـقـبرُ مــا تـزعُـم

لـيَـشمخ بـفـقدِك أنــفُ الـبـلاد
وأنـــفــي  وأنــفُــهـم مُـــرغــم

أخـــي  جـعـفراً بـعُـهود الاخــاءِ
خــالــصــةً  بــيــنـنـا أُقـــسِـــم

وبــالـدمـع  بــعــدك لا يـنـثـنـي
وبــالــحُـزنِ  بــعــدك لا يُــهــزم

وبــالـبـيـتِ  تــغـمـرُهُ وحــشــةٌ
كـقـبـرك  يــسـأل هـــل تـقـدم

وبـالـصحب والأهـلِ يـستغربون
لأنّــــــك مــنــحــرفٌ عــنــهــم

يـمـيـناً  لـتـنـهشُني الـذكـريات
عـلـيـك كــمـا يـنـهـش الأرقــم

إذا عـــادنــي شــبــحٌ مــفــرحٌ
تــصــدّى  لــــه شــبـحٌ مــؤلِـم

وأنّــــي  عــــودٌ بــكـفِّ الــريـاحِ
يــسـأل  مـنـهـا مــتـى يُـقـصم

أخـي جـعفراً وشـجونُ الأسـي
ســتـصـرِم حـبـلـي ولا تُــصـرم

أزح عــن حـشاك غُـثاء الـضمير
ولا  تـكـتُـمـنّـي فـــــلا أكـــتُــم

فــان  كــان عـنـدك مِـن مـعتبٍ
فــعــنـدي  أضــعــافُـه مـــنــدم

وإن  كــنـت فـيـمـا امـتُـحِنّا بــه
ومــــا مــسّـنـا قــــدرٌ مـحـكـم

تُــخــرِّجُ  عُـــذراً يُـسـلّـي أخـــاً
فــأنــت الــمـدِلُّ بـــه الـمُـنـعِم

عـصـارةُ عُـمرٍ بـشتّى الـصنوف
مـلـيءٍ كـمـا شُـحِـن الـمُـعجم

بـــه  مـــا أُطــيـقُ دفــاعـاً بـــه
ومــا هــو لــي مُـخرِسٌ مُـلجِم

أسـالـت ثــراك دمـوعُ الـشباب
ونــــوّر  مــنـك الـضـريـح الـــدم
أحدث أقدم