قصيدة أبو تمام وعروبة اليوم - للشاعر عبدالله البردوني

شعر أبو تمام وعروبة اليوم - البردوني

حين وقف من على المسرح في العام 1971م في مهرجان أرض المربد في الموصل كانت الحداثة الشعرية في تلك المرحلة تمر بنقطة تماس مع العقد الجديد فأثبت البردوني حادي البصيرة أن الحداثة الشعرية لم تقتصر على مجموعة أبيات غير متكافئة في الوزن وغير ملتزمة بتفعيلة واحدة . فجاء بشعر قل أن يقال عنه إنه الحداثة الشعرية المتفردة وكانت نظرته المتفحصة للغد تخرق من وراء عينيه الميتتين الحاضر لتتأمل في المستقبل.

حين صعد من على المنبر يلقي قصيدته كان الحضور غير مقتنع بهيئته التي تبدو للعين غير مستوفية شروط الشاعر كما يظن البعض من البرجوازيين.

فكانت المفاجأة وفجر البردوني قصيدة أبو تمام وعروبة اليوم لتصيب الجميع بنوبة إغماء أرغمت الكثير من الشعراء على لف أوراق قصائدهم وقبرها في جيوبهم حتى إشعار أخر.

فردد قصيدته المشهورة مناكفة لقصيدة أبو تمام «حبيب إبن أوس» السيف أصدق أنباء من الكتب.
فقال يرحمه الله:

مـا اصـدق الـسيف إن لـم يـنضه الـكذب
واكــذب الـسـيف إن لــم يـصـدق الـغضب

بــيـض الـصـفـائح اهـــدى حــيـن تـحـملها
ايـــــد إذا غــلــبـت يــعــلـو بـــهــا الــغـلـب

واقـــبــح الــنــصـر.. نـــصــر الاقــويــاء بــــلا
فـهم سـوى فـهم كـم باعوا وكم كسبوا

ادهــى مــن الـجـهل عـلـم يـطـمئن إلـى
انــصـاف نـــاس طــغـوا بـالـعلم واغـتـصبوا

قــالـوا: هـــم الـبـشر الارقــى ومــا اكـلـوا
شـيـئا.. كـمـا اكـلـوا الإنـسـان او شـربـوا

مـــاذا جـــرى.. يـــا ابـــا تـمـام تـسـالني؟
عـفوا سـاروي.. ولا تـسال.. ومـا السبب

يــدمــى الــسـؤال حــيـاء حــيـن نـسـالـه
كيف احتفت بالعدى «حيفا» او «النقب»

مـــن ذا يـلـبـي ؟ امـــا إصـــرار مـعـتصم ؟
كـلا واخـزى مـن « الافـشين » مـا صلبوا

الــيـوم عـــادت عــلـوج «الـــروم» فـاتـحـة
ومــوطــن الــعـرب الـمـسـلوب والـسـلـب

مــــاذا فـعـلـنـا؟ غـضـبـنـا كــالـرجـال ولـــم
نــصـدق.. وقــد صــدق الـتـنجيم والـكـتب

فــاطـفـات شــهــب «الــمـيـراج» انـجـمـنا
وشـمـسـنـا .. وتــحـدت نــارهـا الـحـطـب

وقـــاتــلــت دونـــنـــا الابــــــواق صـــامـــدة
امــــا الــرجــال فــمـاتـوا... ثـــم او هــربـوا

حـكـامـنـا إن تــصــدوا لـلـحـمى اقـتـحـموا
وإن تــصـدى لـــه الـمـسـتعمر انـسـحـبوا

هـــم يـفـرشـون لـجـيـش الـغـزو اعـيـنهم
ويــــدعـــون وثــــوبـــا قــــبـــل ان يـــثــبــوا

الــحـاكـمـون و«واشــنـطـن» حـكـومـتـهم
والــلامــعـون .. ومــــا شــعــوا ولا غــربــوا

الــقــاتـلـون نـــبـــوغ الــشــعــب تــرضــيـة
لـلـمـعـتـديـن ومــــــا اجــدتــهــم الـــقــرب

لــهـم شـمـوخ «الـمـثنى» ظـاهـرا ولـهـم
هــوى إلــى «بـابـك الـخـرمي» يـنـتسب

مــاذا تــرى يــا «ابــا تـمـام» هــل كـذبـت
احـسـابـنا؟ او تـنـاسـى عــرقـه الـذهـب؟

عــروبــة الــيــوم اخــــرى لا يــنــم عــلـى
وجـــودهـــا اســـــم ولا لـــــون ولا لـــقــب

تــســعـون الـــفــا « لــعـمـوريـة» اتــقــدوا
ولــلــمـنـجـم قـــالـــوا: إنـــنـــا الــشــهــب

قـيـل: انـتـظار قـطـاف الـكـرم مــا انـتـظروا
نــضــج الـعـنـاقـيد لــكــن قـبـلـهـا الـتـهـبوا

والــيــوم تــسـعـون مـلـيـونـا ومــــا بــلـغـوا
نــضـجـا وقــــد عــصــر الــزيـتـون والـعـنـب

تـنـسـى الـــرؤوس الـعـوالي نــار نـخـوتها
إذا امــتـطـاهـا إلـــــى اســـيــاده الــذنــب

«حـبـيب» وافـيـت مــن صـنـعاء يـحملني
نــسـر وخــلـف ضـلـوعـي يـلـهـث الـعـرب

مـــاذا احـــدث عـــن صـنـعـاء يـــا ابــتـي ؟
مـلـيـحـة عـاشـقـاهـا : الــسـل والــجـرب

مــاتــت بــصـنـدوق «وضـــاح» بـــلا ثــمـن
ولـم يـمت فـي حـشاها العشق والطرب

كــانـت تــراقـب صــبـح الـبـعـث فـانـبـعثت
فـــي الـحـلم ثــم ارتـمـت تـغـفو وتـرتـقب

لـكـنـها رغـــم بــخـل الـغـيـث مـــا بـرحـت
حـبلى وفـي بطنها «قحطان» او «كرب»

وفـــي اســى مـقـلتيها يـغـتلي «يـمـن»
ثــــان كــحـلـم الــصـبـا... يــنـاى ويـقـتـرب

«حـبـيب» تـسال عـن حـالي وكـيف انـا؟
شــبـابـة فــــي شــفــاه الــريــح تـنـتـحب

كــانـت بــلادك «رحــلا»، ظـهـر «نـاجـية»
امـــــا بـــــلادي فـــــلا ظـــهــر ولا غـــبــب

ارعـــيــت كـــــل جــديــب لــحــم راحــلــة
كــانــت رعــتــه ومـــاء الـــروض يـنـسـكب

ورحـــت مـــن ســفـر مــضـن إلــى سـفـر
اضـــنــى لان طـــريــق الـــراحــة الــتـعـب

لــكـن انـــا راحـــل فـــي غــيـر مـــا سـفـر
رحـلي دمي ... وطريقي الجمر والحطب

إذا امــتــطــيـت ركـــابـــا لــلــنــوى فـــانـــا
فــي داخـلـي ... امـتـطي نــاري واغـترب

قــبـري ومـاسـاة مـيـلادي عـلـى كـتـفي
وحـــولــي الــعــدم الـمـنـفـوخ والــصـخـب

«حـبـيـب» هـــذا صـــداك الــيـوم انـشـده
لــكــن لــمــاذا تـــرى وجــهـي وتـكـتـئب؟

مـاذا ؟ اتـعجب من شيبي على صغري؟
إنـــي ولـــدت عــجـوزا .. كــيـف تـعـتجب؟

والــيــوم اذوي وطــيــش الــفـن يـعـزفـني
والاربـــعـــون عـــلـــى خــــــدي تــلــتـهـب

كــــذا إذا ابــيــض إيــنــاع الــحـيـاة عــلـى
وجـــــه الاديـــــب اضـــــاء الــفــكـر والادب

وانــت مــن شـبـت قـبـل الاربـعـين عـلى
نــــار «الـحـمـاسـة » تـجـلـوهـا وتـنـتـحب

وتــجــتـدي كـــــل لـــــص مـــتــرف هــبــة
وانـــت تـعـطـيه شــعـرا فـــوق مـــا يـهـب

شـرقـت غـربت مـن «وال» إلـى «مـلك»
يــحــثـك الــفـقـر ... او يــقـتـادك الــطـلـب

طوفت حتى وصلت «الموصل» انطفات
فــيــك الامــانــي ولـــم يـشـبـع لــهـا ارب

لـــكــن مـــــوت الــمـجـيـد الـــفــذ يـــبــداه
ولادة مــــــن صــبــاهـا تـــرضــع الــحــقـب

«حـبـيـب» مـــا زال فــي عـيـنيك اسـئلة
تــبــدو... وتــنـسـى حـكـايـاهـا فـتـنـتـقب

ومـــــا تـــــزال بــحـلـقـي الـــــف مــبـكـيـة
مـــن رهـبـة الـبـوح تـسـتحيي وتـضـطرب

يــكــفــيـك ان عـــدانـــا اهــــــدروا دمـــنـــا
ونــحــن مــــن دمــنــا نــحـسـو ونـحـتـلـب

ســحــائب الـــغــزو تــشـويـنـا وتـحـجـبـنـا
يــومـا سـتـحـبل مــن إرعـادنـا الـسـحب؟

الا تـــــــرى يـــــــا ابــــــا تـــمـــام بــارقــنــا
إن الــســمـاء تـــرجــى حــيــن تـحـتـجـب


اقرأ أيضًا: أفضل خمس قصائد للشاعر اليمني عبد الله البردوني
أحدث أقدم